قد ذكر الحكماء لذات الإنسان وقواها مثالاً صوَّرها بها، فيتمثل كل ما لا يدرك إلا بالعقل بتصور الحس ليقرب من الفهم، فقالوا: ذات الإنسان لما كان عالماً صغيراً كما تقدم جرى مجرى بلد أحكم بناؤه، وشيد بنيانه، وحُصّن سوره، وخُطَّت شوارعه، وقسمت محاله وعُمرت بالسكان دوره، وسلكت سبله، ,اجريت أنهاره، وفتحت أسواقه، واستعملت صناعه، وجعل فيه ملك مدبر، وللملك وزير وصاحب بريد وأصحاب أخبار وخازن وترجمان وكاتب وفي البلد أخيار وأشرار. فصناعها هي القوى السبعة التي يقال لها الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والنامية والغاذية والمصورة والملك العقل ومنبعه من القلب. والوزير القوة المفكرة ومسكنها وسط الدماغ. وصاحب البريد القوة المتخيلة ومسكنها مقدم الدماغ. وأصحاب الأخبار الحواس الخمس ومسكنها الأعضاء الخمسة. والخازن القوة الحافظة ومسكنها الدماغ. والترجمان القوة الناطقة وآلتها اللسان. والكاتب القوة الكاتبة وآلتها اليد، وسكانها الأخيار والأشرار هي القوى التي منها الأخلاق الجميلة والأخلاق القبيحة، وكما أن الوالي إذا تزكى وساس الناس بسياسة الله صار ظل الله في الأرض كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السلطان ظل الله في الأرض ويجب على الكافة طاعته" كما قال الله تعالى: )أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم( كذلك متى جُعل العقل سائساً وجب على سائر قوى النفس أن تطيعه. وكما أن الله تعالى جعل الناس متفاوتين كما نبه الله تعالى عليه بقوله: )ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريّاً(. كذلك جعل قوى النفس متفاوتة وجعل من حق كل واحدة أن تكون داخلة في سلطان ما فوقها ومتأمرة على ما دونها. فحق القوة الشهوانية أن تكون مؤتمرة للقوة العاقلة، وحق القوة العاقلة أن تكون مستضيئة بنور الشرع ومؤتمرة لمراسمه، حتى تصير هذه القوى متظاهرة غير متعادية كما قال الله تعالى )ونزعنا ما في صدورهم من غِلّ إخواناً على سُرُرٍ متقابلين(. وكما لا ينفك أشرار العالم من أن يطلبوا في العالم الفساد ويعادوا الأخيار كما قال تعالى )وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً شياطين الأنس والجن(. كذلك في نفس الإنسان قوى رديئة من الهوى والشهوة والحسد تطلب الفساد وتعادي العقل والفكر. وكما نبه أنه يجب للوالي أن يتبع الحق ولا يُصغي إلى الأشرار ولا يعتمدهم كما قال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم..(. وقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء(. وقال: )وأَن احكم بينهم بما أَنزل الله ولا تَتَّبعْ أهواءهم واحذَرْهم أَن يفتنوك(. كذلك يجب للعقل والفكر أن لا يعتمد القوى الذميمة.
وكما أنه يجب للوالي أن يجاهد اعداء المسلمين كما قال تعالى: )واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوَّ الله وعدوكم(. وكذلك يجب للعقل أن يعادي الهوى فإن الهوى من اعداء الله بدلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما في الأرض معبود ابغض الى الله من الهوى" ثم تلا )أفرأيت من أتخذ آلهة هواه( وكما أن من استحوذ عليه الشيطان انساه ذكر الله، وكذلك العقل إذا استحوذ عليه الهوى. كما أنه يجب للوالي أن يسالم اعاديه إذا لم يقو عليهم كما قال الله تعالى)وان جنحوا للسلم فاجنح لها( وان لا يركن اليهم وان سالمهم كما قال الله تعالى: )ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار( كذلك يجب للعقل ان يسالم الاشرار من قوى النفس اذا عجز عنها وان لا يركن اليها.
وكما ان الوالي اذا احس بقوة احتاج الى ان يعدل الى نقض العهد واظهار المعاداة كما قال الله تعالى: )فإذا انسلخ الاشهر الحرُمُ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخُذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلَّ مرصد(. كذلك حق العقل اذا قوي على قوى النفس ان لا يداهنها. وكما ان شياطين الانس والجن يضعف كيدهم على من تحصن بالايمان واستعاذ بالله وتقوَّى على من والاه كما قال تعالى: )إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون( كذلك يضعفُ كيد الهوى عن العقل إذا تقوَّى بالله واستعاذ به. فحقُّ العقل أن يستعيذ من الهوى والشره والحرص والأمل وأن يطهر ذاته منها ومن سائر القوى الرديئة، استعاذة إبراهيم صلوات الله عليه حيث قال: )رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبَنيَّ أن نعبد الأصنام(. فالقوى الرديئة والإرادات الرديئة في ذات الإنسان جارية مجرى أصنام قلَّ ما ينفك الإنسان من عبادتها كما قال الله تعالى: )وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون( وذكروا مثلاً آخر فقالوا: "كل إنسان مع بدنه كوالٍ في بلد قيل له طهّر بلدك من النجاسات وادّب من يقبل التأديب من أهله ورُضْ من يقبل الرياضة من حيوانه وسباعه. ومن عاث فيه ولا يقبل التأديب والرياضة فاحبسه أو اقتله ولكن بالحق" كما قال الله تعالى: )ولا تقتلوا النفس التي حرّمَ اللهُ إلاّ بالحق(. فإن عجزت عن تطهير عرصته من الأنجاس، وعن تأديب طغاته ورياضة حيواناته وسباعه، فلا تعجز عن صيانة نفسك عن التلطخ بنجاساته، وعن الاحتراس من أن تفترسك سباعه، وأن يسبيك طغاته حتى إذا لم تكن غالباً لم تكن مغلوباً. فصار الناس في ذلك بين ثلاثة أصناف: صنف لم يفعل ما أُمر، ولم يؤَد حق الإيالة، وتهاون فيما فوض إليه، فجرح وأُسر فصار عند نفسه مع كونه مجروحاً مأسوراً ملوماً مخذولاً. وصنف فعل ما أُمر فأَدى حق الإيالة، فصار عند ربه مأجوراً مشكوراً. وصنف جدَّ تارة وقصَّر تارة، فجرح وجُرح، وغَلب وغُلب. فهو كما قال تعالى: )خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم( وقال بعضهم: :الإنسان إذا اعتُبر مع قوة التخيل وقوة الغضب وقوة الشهوة فمثله مثل من بلي في سفره بصحبة ثلاثة اضطر إليهم حتى لا يمكنه أن ينفصل منهم ويقضي سفره من دونهم" كما قال الشاعر:
ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى عدوًّا له ما من صداقـتـه بـدُّ
فيا نكد الدنيا متـى أنـت نـازح عن الحر حتى لا يقاربه ضـد
فواحدٌ أمامههو له رقيب يحفظه، وعين تكلأه، لكنه مَلق باهت مموّه يلفق الباطل تلفيقاً، ويختلق الزور اختلاقاً، فيخلط الكذب بالصدق والخطأ بالصواب.
والثاني عن يمينه بطش زَعر، يحميه عن أعاديه، لكنه كثيراً ما يغويه، فيهيج هائجه فلا يقمعه النصحُ ولا يطأطئه الرفق، كأنه نار في حطب أو سيل في صبب أو قَرْمٌ مُغْتَلِم، أو سبعٌ ثاكل، فيحتاج أن يسكنه دائماً فيحتمي به ومنه فهو معه كما قيل: "راكب الأسد يهابه الناس وهو في نفسه أهيب"
والثالث عن يساره وهو الذي يأتيه بالمطعم والمشرب ولكنه أرعن ملق قَذِر شَبِق كإنه خنزير أجيع فأٌرسل في جِلَّة يأتيه أحياناً بأطعمة خبيثة فيكرهه على تناولها، فهو يحتاج أن يصابرهم حتى يقطع سفره، فيبلغ أرضاً مقدسة يشرق فيها النور ويشرب فيها الذئب والنعجة من حوض واحد فيأمن فيها بوائقهم، ومن حيلته التي ترجى أن يسلم منهم بها أن يسلط هذا البطش الزّعِر على هذا الأرعن الملق حتى يزبره زبراً وأن يطفي غلو هذا الزعر التائه بخلابة هذا الأرعن المَلِق، وأن لا يجنح إلى الباهت المتخرص حتى يؤتيه موثقاً من الله غليظاً ثم يصدقه فيما ينهيه إليه، فجعل الملق الباهت كناية عن الوهم، والبطش الزعر عن الغضب، والأرعن الملق عن الشهوة، وجعل الأرض المقدسة عبارة عن دار السلم، وذكر أن حيلته في أن يسلم منهم أن يدفع بعض هذه القوى ببعض دفع الشر بالشر.